كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وُجُوهَكُمْ}: الوجه المعروف في المتعارف ما تواجه به، وذلك يدل على أنه لا يجب المضمضة والاستنشاق، لأن الوجه لا يتناوله، مع أنه ليس مما تواجه، ولو كان من الأركان الأصلية في الوضوء، ما كان لائقا بالشرع أن يذكر اللّه تعالى أعضاء الوضوء الواجب غسلها ولا يذكرهما.
{وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
وفي ما استرسل من اللحية عن الوجه اختلاف قول:
فقائل يقول: إنه من الوجه لأنه يواجه.
والقائل الآخر يقول: نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة، لا يخرجه عن أن يكون من الوجه، كما أن شعر الرأس من الرأس، وقد قال اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ}، فلو مسح على شعر رأسه من غير بلاغه إلى البشرة، جاز ذلك، وكان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين، وكذلك نبات الشعر على الوجه، لا يخرجه من أن يكون منه.
ومن لا يرى أنه من الوجه يفرق بينه وبين شعر الرأس، لأن شعر الرأس يولد المرء عليه، وهو بمنزلة شعر الحاجب، في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو منه، وشعر اللحية غير موجود معه في حالة الولادة، وإنما يوجد بعده، ولذلك لم يعدّ من الوجه.
وعلى الجملة، لفظ الرأس مطلقا لا يظهر في شعر الرأس الأعلى الذي يظهر لفظ الوجه في شعر الوجه.
والإفتراق إنما يرجع إلى معنى آخر، غير ما يتعلق باللفظ.
قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ}:
اعلم أن بعض علمائنا قال: قوله إلى المرافق، إنما لم يقتضي إخراج المرافق، ووجب إدخالها في الغسل، لأن اسم اليد يتناول جميع اليد إلى المنكب، كما أن الرجل اسم لجميع العضو إلى الأفخاذ، فقوله إلى المرافق لبيان إسقاط معنى الواجب، فيما يتناوله اسم اليد، وهذا يلزم منه وجوب التيمم إلى المنكبين، لأنه ليس فيه تحديد.
ويجاب عنه بأن الظاهر يقتضي ذلك، ولذلك تيمم عمار إلى المناكب وقال: تيممنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى المناكب، وكان ذلك لعموم قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}، ولم ينكره عليه أحد من أهل اللغة، وكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، ويلزم من مساق هذا، أن من غسل يديه إلى الكوع، ثم قال غسلت يدي، أن يكون هذا اللفظ مجازا فيه، لأنه لم يغسل اليد وإنما غسل بعضه، وكذلك إذا قال قطعت يد فلان، ألا يكون حقيقة إذا قطع من الكوع، كما لا يكون حقيقة إذا قطع الأصابع وحدها، وأن مثل ذلك بشع شنع.
ويجاب عنه، بأن اليد والرجل حقيقتهما تمام العضو إلى حيث قلنا:
فالمرفق من اليد، والركبة من الرجل.
وهم يقولون: اليد هي التي يقع البطش بها في الأصل. وهي التي خلقت للبطش، وما عداها الآلة الباطشة تتمة لها، والرجل هي التي أعدت للمشي وما عداها من تتمة هذا المقصود، وهذا مما يختلف القول فيه، ولا ينتهي إلى حد الوضوح، والمعتمد فيه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم توضأ مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به.
ومتى كانت كلمة إلى مترددة بين إبانة الغاية وبين ضم الغاية إليه، وجب الرجوع فيها إلى بيان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وفعل رسول اللّه بيان.
فإذا أدخل المرفقين والكعبين في الغسل، ظهر أنه بيان ما أجمله كتاب اللّه تعالى.
وهذا يرد عليه أن هذا إذا ظهر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيان الواجب، فأما إذا أتى بالسنة والفرض في وضوئه، فلا يظهر منه ما ذكره الأولون.
وبالجملة، القول متقاوم، والاحتياط للوضوء يقتضي الأخذ بالأتم والحدث يقين، فلا يزول إلا بيقين.
قوله تعال: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ}:
ظن ظانون أن الباء في قوله: {برؤسكم} وراء اقتضاءه لإلصاق الفعل بالمحل. حيث لا يحتاج فيه إلى الإلصاق لحصوله دون الباء، بخلاف قوله مررت بالجدار، فإنه لابد فيه من الباء لتحقيق الإلصاق فإذا لم تكن الباء هاهنا للإلصاق كانت للتبعيض، وفرقوا بين قول القائل مسحت الجدار ومررت بالجدار. فإذا قال: مسحت الجدار، ظهر كونه ماسحا لكله، وإذا قيل مررت به لم يفهم منه ذلك.
فقيل له: هذا فرق لا يعرفه أهل اللغة، والباء زائدة ها هنا.
فأجابوا بأنا إذا جعلناها زائدة ألغينا مقتضاها.
ومتى أمكن إعمالها فلا يلغى مقتضاها.
قيل لهم: إذا كانت ترد زائدة، فكونها زائدة مقتضاها أو معناها فما ألغيناها من هذه الجهة، وإذا لم يثبت ذلك، فالتبعيض إنما يتلقى من لفظ المسح، فإذا قال قائل: مسحت الجدار، وكان قد مسح بعضه كان اللفظ حقيقة وتم مقتضاه، فالرأس وإن كان حقيقة في جميع العضو ولكن رب فعل يضاف إليه، فلا يفهم من الرأس كمال العضو لمكان الفعل، مثل فهم الفرق من قول القائل: حلقت رأس فلان، في أنه يفهم منه استيعاب الحلق جميع الرأس.
وقوله ضربت رأس فلان، في أنه لا يفهم منه استيعابه.
وهذا لا يتجه كما ينبغي إلا أن يضاف إلى العرف، فيقال في العرف إذا قال القائل: حلقت رأس فلان، يبعد فهم حلق بعضه، لأن ذلك الفعل على وجه التبعيض غير متعارف، ويقول القائل رأيت فلانا، وإنما يكون قد رأى وجهه، ولكن ذلك بعّضه العرف. ويقول: رأيت مدينة كذا أو سور مدينة كذا، وإنما قد رأى شيئا يسيرا من ذلك، فهذا الفرق منشؤه العرف لا غير.
فبالجملة إذا قال القائل وقد مسح بعض رأسه: مسحت الرأس، كان ذلك حقيقة ولم يكن مجازا، وهذا لا يبعد إثباته، ويتأيد ذلك بالإجماع على جواز ترك شيء من مسح الرأس.
وإذا انعقد الإجماع على جواز ترك شيء منه، فليس مقدار أولى من مقدار.
فهذا هو القدر اللائق بهذا الكتاب، وما زاد عليه فهو من مباحث الفقه.
قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} فيه قراءتان: النصب والجر.
أما النصب، فهو من حيث الإجراء على الأصل. لأن الرجل في موضع النصب، لأنه وقع الفعل عليه، والرأس كمثل، إلا أن الرأس انتصب للباء الجارة، فبقيت الرجل على الأصل.
ويجوز أن يكون الجر للمجاورة، وفي كسر الجوار أمثلة من القرآن وأشعار من العرب، مستقصاة في كتب الفقه والأصول.
واعترض عليه بأن الأليق بكتاب اللّه تعالى مراعاة المعنى دون النظم وكسر الجوار، إنما يصير إليه من رام تغليب النظم على المعنى مثل الشعراء، فأما من رام تغليب المعنى فلا يصير إلى كسر الجوار، ومتى كان حكم الأرجل في المسح مخالفا حكم الرأس، لم يجز الجر بناء على المجاورة في النظم، مع الإختلاف في المعنى، وهذا كلام حسن.
فقيل لهم: بل هما في المعنى متقاربان، فإنهما يرجعان إلى إمساس العضو الماء.
فقال في الجواب عنه: إن الشرع أراد تفرقة ما بين البابين فقال:
فاغسلوا وجوهكم، ثم قال: وامسحوا.. فلو كانا متقاربين في المعنى لم يقصد إلى التفرفة بينهما.
نعم، ورد في بعض الأشعار.
أعلفتها تبنا وماءا باردا

و:
متقلدا سيفا ورمحا

و:
أطفلت بالجلهتين ظباءها ونعامها

لأن العلم باقترانهما أغنى عن التعرض لوجه الاقتران، فأطلق اللفظ الواحد عليهما. وها هنا ما أطلق اللفظ الواحد عليهما، فإنه لو أطلق لفظ المسح على المغسول، لأطلق لفظ الغسل على الجميع إطلاقا واحدا ولم يرجع في الرءوس إلى لفظ المسح، فإن تقارن ما بين المسح والغسل إن اقتضى إطلاق لفظ واحد عليهما، فتقارن ما بينهما يقتضى إطلاق لفظ الغسل على الجميع.
ولئن قيل: ذكر المسح لإبانة حكم آخر لابد من إبانته، فليفرد الأرجل ببيان حكمها المختص بها وهو الغسل، وإذا ثبت ذلك فنقول:
نحن وإن سلمنا لهم أن اللفظ ظاهر في المسح، فاحتمال الغسل قائم والذي يتصل به من القرائن يثبته، ومن جملة القرائن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، والبلل الذي يخرج من الماء في خف الماسح، كيف يمتد إلى الكعبين؟
وكيف يمكنهم ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا: إنه لا يجب مد الماء إليه؟
فإن ثبت خلاف الإجماع، وصح أنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: «ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء».
وأما الكعبان: فهما العظمتان النّاتئتان بين مفصل الساق والقدم.
وقال محمد بن الحسن: هو مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم، وذلك لا يقوى لأن اللّه تعالى قال: وأرجلكم إلى الكعبين، فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين، ولو كان في كل رجل كعب واحد، لقال إلى الكعب، كما قال تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}، إنما كان لكل واحد قلب واحد، وأضافهما إليه بلفظ الجمع، فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية، دل على أن في كل رجل كعبين.
واعلم أن ظاهر إضافة الغسل إلى الرجل، يمنع مسح الخف، إلا أن مسح الخف ورد في الأخبار، فلم يكن نسخا لما في الكتاب بل كان تخصيصا.
الاعتراض: أن التخصيص إنما يكون في مسميات يخصّص بعضها ويبقى الباقي على موجب الأصل، فإذا جوز المسح، ثم مطلقا، فأين وجوب غسل الرجل؟ وعندكم أنه يتخير بين المسح والغسل أبدا.
فأين وجوب غسل الرجل على هذا التقدير، حتى يقال: خرج منه البعض وبقي البعض؟
الجواب أن معنى التخصيص فيه ظاهر، فإن غسل الرجل ثابت في حق الأكثر، والذي يمسح إنما يمسح مدة معلومة، ثم يرجع إلى الغسل فيغسل، ولابد للمسح على الخفين من تقديم الطهارة الكاملة حتى يصح المسح، فوجوب غسل الرجل حاصل في حق كثير من المسميات، فصح معنى التخصص.
وهذا بيّن ظاهر، وإذا ثبت ذلك في أصل المسح على الخفين، والمسح موقوف فيما سوى المدة، وجب الرجوع إلى الأصل.
ويحتج على من جوز مسح العمامة، بإيجاب اللّه تعالى غسل الرجلين، فإن تخصيصه لا يجوز إلا بدليل.
نعم مسح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بناصيته وعمامته.
وفي بعض الروايات على جانب عمامته.
وفي بعضها: وضع يده على عمامته، فأخبر أنه بعد فعل المفروض من مسح الناصية مسح على العمامة، وذلك جائز عندنا.
إذا ثبت هذا فظاهر قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} يقتضي الإجزاء فرق أو جمع ووالى، على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو مذهب الأكثرين من العلماء، فاعتبار الموالاة يقتضي من دليل زائد، وليس في الأمر ما يقتضي الفور، وترتيب بعض المأمور على البعض.
ويستدل بظاهر الآية على أن التسمية ليست شرطا.
وإذا ثبت أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع فيما يتعلق بالزمان، فإذا قال القائل: رأيت زيدا وعمرا، لم يفهم منه أنه رآهما في زمان واحد، أو في زمانين مرتبين، وإذا ثبت ذلك، فالواو أجنبى عن اقتضاء هذا المعنى، وإنما هو لترتيب الأفعال بعضها على بعض.
فظاهر الآية يقتضي وجوب إمرار الماء على الأعضاء الأربعة، ولو قال صاحب الشريعة: أمروا الماء على الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين، فإذا أمر الماء عليها على أي وجه كان، خرج عن مقتضى الأمر وكان ممتثلا، وليس يجب على المأمور إلا ما اقتضاه ظاهر الأمر.